فصل: اللغة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (33):

قوله تعالى: {إِنَّ الله اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان أصل الإبداء نورًا عليًا نزله الحق سبحانه وتعالى في رتب التطوير والتصيير والجعل إلى أن بدأ عالمًا دنياويًا محتويًا على الأركان الأربعة والمواليد الثلاثة، وخفيت نورانيته في موجود أصنافه صفي الله سبحانه وتعالى من وجود كلية ذلك هذا الخلق الآدمي فكان صفي الله، فأنبأ الخطاب عن تصييره إلى الصفاء بالافتعال؛ انتهى- فقال سبحانه وتعالى: {إن الله} أي بجلاله وعظمته وكماله في إحاطته وقدرته {اصطفى} أي للعلم والرسالة عنه سبحانه وتعالى إلى خلقه والخلافة له في ملكه {آدم} أباكم الأول الذي لا تشكون في أنه خلقه من تراب، وهو تنبيه لمن غلط في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام على أن أعظم ما استغربوا من عيسى كونه من غير ذكر، وآدم أغرب حالًا منه بأنه ليس من ذكر ولا أنثى ولا من جنس الأحياء- كما سيأتي ذلك صريحًا بعد هذا التلويح لذي الفهم الصحيح.
قال الحرالي: فاصفطاه من كلية مخلوقه الذي أبداه ملكًا وملكوتًا خلقًا وأمرًا، وأجرى اسمه من أظهر ظاهره الأرضي وأدنى أدناه، فسماه آدم من أديم الأرض، على صيغة أفعل، التي هي نهاية كمال الآدمية والأديمية.
فكان مما أظهر تعالى في اصطفاء آدم ما ذكر جوامعه علي رضي الله عنه في قوله: لما خلق الله سبحانه وتعالى أبان فضله للملائكة وأراهم ما اختصه به من سابق العلم من حيث علمه عند استنبائه إياه أسماء الأشياء فجعل الله سبحانه وتعالى آدم محرابًا وكعبة وبابًا وقبلة، أسجد له الأبرار والروحانيين الأنوار، ثم نبه آدم على مستودعه وكشف له خطر ما ائتمنه عليه بعد أن سماه عند الملائكة إمامًا، فكان تنبيهه على خطر أمانته ثمرة اصطفائه- انتهى {ونوحًا} أباكم الثاني الذي أخرجه من بين أبوين شابين على عادتكم المستمرة فيكم.
وقال الحرالي: أنبأ تعالى أنه عطف لنوح عليه الصلاة والسلام اصطفاء على اصطفاء آدم ترقيًا إلى كمال الوجود الآدمي وتعاليًا إلى الوجود الروحي العيسوي، فاصطفى نوحًا عليه الصلاة والسلام بما جعله أول رسول بتوحيده من حيث دحض الشرك وأقام كلمة الإيمان بقول لا إله إلا الله، لما تقدم بين آدم ونوح من عبادة الأصنام والأوثان، فكان هذا الاصطفاء اصطفاء باطنًا لذلك الاصطفاء الظاهر فتأكد الاصطفاء وجرى من أهلكته طامة الطوفان مع نوح عليه الصلاة والسلام من الذر الآدمي مجرى تخليص الصفاوات من خثارتها، وكما صفي آدم من الكون كله صفي نوحًا عليه السلام وولده الناجين معه من مطرح الخلق الآدمي الكافرين الذين لا يلدون إلا فاجرًا كفارًا، فلم يكن فيهم ولا في مستودع ذراريهم صفاوة تصلح لمزية الإخلاص الذي اختص بصفوته نوح عليه الصلاة والسلام {وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح} [الأحزاب: 7] فكان ميثاق نوح عليه السلام ما قام به من كلمة التوحيد ورفض الأصنام والطاغوت التي اتخذها الظلمانيون من ذر آدم، فتصفى بكلمة التوحيد النوارانيون منه، فكان نوح عليه الصلاة والسلام ومن نجا معه صفوة زمانه، كما كان آدم صفوة حينه- انتهى.
ولما كان أكثر الأنبياء من نسل إبراهيم عليه الصلاة والسلام زاد في تعظيمه بقوله: {وآل إبراهيم} أي الذين أود فيهم الخوارق ولاسيما في إخراج الولد من بين شيخين كبيرين لا يولد لمثلهما، وفي ذلك إشارة إلى أن عيسى عليه الصلاة والسلام مثلهم لأنه أحدهم، وكذا قوله: {وآل عمران} في قوله: {على العالمين} إشارة إلى أنه كسائر أقاربه منهم، وأفصح بذلك إفصاحًا جليًا في قوله: {ذرية بعضها من بعض} أي فهم كلهم من بني آدم، لا مزية لبعضهم على بعض في ذلك، لا مزية في شيء من ذلك، وأنتم لا تشكون فيه من شيء من الخصائص مما دون أمد عيسى عليه الصلاة والسلام، فما لكم لما خص سبحانه وتعالى آل عمران من بين العالمين بخرق العادة فيهم بإخراج ولد من أنثى فقط من غير ذكر لم تردوا ما لم تعرفوا منه إلى ما تعرفون من الخوارق حتى انجلى لكم واتضح لديكم؟ بل أشكل لعيكم وقامت فيكم قيامتكم بما يفضي إلى الشك في قدرة الإله الذي لا تشكون أن من شك في تمام قدرته كفر.
وقال الحرالي: فإثبات هذه الجملة بتشابه وتماثل تتعالى عن نحوه الإلهية، فأبان هذا الخطاب في عيسى عليه الصلاة والسلام اصطفاء من جملة هذا الاصطفاء، فكما لم يقع فيمن سواه لبس من أمر ألإلهية فكذلك ينبغي أن لايقع فيه هو أيضا لبس لمن يتلقن بيان الإحكام والتشابه من الذي أنزل الكتاب محكمًا ومتشابهًا وأظهر الخلق باديًا وملتبسًا انتهى.
وقد عاد سبحانه وتعالى بهذا الخطاب على أحسن وجه إلى قصة عيسى عليه الصلاة والسلام الذي نزلت هذه الآيات كلها في المجادلة في أمره والإخبار عن حمله وولادته وغير ذلك من صفاته التي يتنزه الإله عنها، وكراماته التي لا تكون إلا للقرب، فأخبر أولًا عن حال أمه وأمها وأختها وما اتفق لهن من الخوارق التي تمسك بوقوع مثلها من عيسى عليه السلام من كفر برفعه فوق طوره، ثم شرع في قص أمره حتى لم يدع فيه لبسًا بوجه.
وقال الحرالي: في التعبير عن اصطفاء إبراهيم ومن بعده عليهم الصلاة والسلام في إشعار الخطاب اختصاص إبراهيم عليه الصلاة والسلام بما هو أخص من هذا الاصطفاء من حيث انتظم في سلكه آله لاختصاصه هو بالخلة التي لم يشركه فيها أهل هذا الاصطفاء، فاختص نمط هذا الاصطفاء بآله، وهم- والله سبحانه وتعالى أعلم- إسحاق ويعقوب والعيص عليهم الصلاة والسلام ومن هو منهم من ذريتهم لأن إسماعيل عليه السلام اختص بالوصلة بين إبراهيم الخليل ومحمد الحبيب صلوات الله وسلامه عليهم، فكان مترقى ما هو لهم من وراء هذا الاصطفاء، ولأن إنزال هذا الخطاب لخلق عيسى عليه الصلاة والسلام، وهو من ولد داود عليه الصلاة والسلام فيما يذكر، وداود من سبط لاوي بن إسرائيل عليهم الصلاة والسلام فيما ينسب، فلذلك- والله سبحانه وتعالى أعلم- جرى هذا الاصطفاء على آله، فظهر من مزية هذا الاصطفاء لآله ما كان من اصطفاء موسى عليه السلام بالتكليم وإنزال الكتاب السابق {يا موسى إني اصطفيتك على الناس} [الأعراف: 144] فكان هذا الاصطفاء استخلاص صفاوة من صفاوة نوح عليه الصلاة والسلام المستخلصين من صفاوة آدم عليه الصلاة والسلام، وآل عمران- والله سبحانه وتعالى أعلم- مريم وعيسى عليهما الصلاة والسلام ليقع الاصطفاء في نمط يتصل من آدم إلى عيسى عليهما الصلاة والسلام ليحوزوا طرفي الكون روحًا وسلالة، والعالمون علم الله الذي له الملك، فكما أن الملك لابد له من علم يعلم به بدوه وظهوره جعل الله ما أبداه من خلقه علمًا على ظهور ملكه بين يدي ظهور خلقه في غاية يوم الدين عامًا، وفي يوم الدنيا لمن شاء من أهل اليقين والعيان خاصًا، وأعلى معناه بما ظهر في لفظه من الألف الزائدة على لفظ العلم، فاصطفى سبحانه وتعالى آدم عليه الصلاة والسلام على الموجودين في وقته، وكذلك نوحًا وآل إبراهيم وآل عمران كلًا على عالم زمانه، ومن هو بعد في غيب لم تبد صورته في العالم العياني لم يلحقه بعد عند أهل النظر اسم العالم وأشار سبحانه وتعالى بذكر الذرية من معنى الذرء الذي هو مخصوص بالخلق ليظهر انتظام عيسى عليه الصلاة والسلام في سلك الجميع ذرءًا، وأنه لا يكون مع الذرء لبس الإلهية، لأن الله سبحانه وتعالى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، فكان نصب لفظ الذرية تكييفًا لهذا الاصطفاء المستخلص على وجه الذر، وهو الذي يسميه النحاة حالًا- انتهى.
ولما ذكر سبحانه وتعالى هؤلاء الذين اصطفاهم، وكان مدار أمر الاصطفاء على العلم، ومدار ما يقال لهم وفيهم مما يكون كفرًا أو إيمانًا على السمع ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله عاطفًا على ما تقديره: فالله سبحانه وتعالى يفعل بإحاطته ما يريد: {والله} أي المحيط قدرة وعلمًا {سميع عليم} إشارة إلى أنه اصطفاهم على تمام العلم بهم ترغيبًا في أحوالهم والاقتداء بأفعالهم وأقوالهم. اهـ.

.اللغة:

{اصطفى} اختار وأصله من الصفوة أي جعلهم صفوة خلقه.
{محررا} ماخوذ من الحرية وهو الذي يجعل حرا خالصا لله عز وجل، الذي لا يشوبه شيء من امر الدنيا.
{أعيذها} عاذ بكذا: اعتصم به.
{وكفلها} الكفالة: الضمان يقال كفل يكفل فهو كافل، وهو الذي ينفق على انسان ويهتم بمصالحه وفي الحديث: «انا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين».
{المحراب} الموضع العالي الشريف، قال ابو عبيدة: سيد المجالس واشرفها ومقدمها وكذلك هو من المسجد.
{حصورا} من الحصر وهو الحبس، وهو الذي يحبس نفسه عن الشهوات، ولا ياتي النساء للعفة.
{عاقر} عقيم لا تلد، والعاقر: من لا يولد له من رجل او امراة.
{رمزا} الرمز: الاشارة باليد او بالراس او بغيرهما.
{العشي} من حين زوال الشمس الى غروبها.
{الابكار} من طلوع الشمس الى وقت الضحى، قال الشاعر: فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ولا الفيء من برد العشى تذوق. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال ابن عاشور:

{إِنَّ الله اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إبراهيم وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [33]{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [34].
انتقال من تمهيدات سبب السورة إلى واسطة التمهيد والمقصد، كطريقة التخلص، فهذا تخلص لمحاجة وفد نجران وقد ذكرناه في أول السورة، فابتدئ هنا بذكر آدم ونوح وهما أبو البشر أو أحدهما وذكر إبراهيم وهو أبو المقصودين بالتفضيل وبالخطاب. فأما آدم فهو أبو البشر باتفاق الأمم كلها إلا شذوذا من أصحاب النزعات الإلحادية الذين ظهروا في أوروبا واخترعوا نظيرة تسلسل أنواع الحيوان بعضها من بعض وهي نظيرة فائلة.
وآدم اسم أبس البشر عند جميع أهل الأديان، وهو علم عليه وضعه لنفسه بإلهام من الله تعالى كما وضع مبدأ اللغة. ولا شك أن من أول ما يحتاج إليه هو وزوجه أن يعبر أحدهما للآخر، وظاهر القرآن أن الله أسماه بهذا الاسم من قبل خروجه من جنة عدن ولا يجوز أن يكون اسمه مشتقا من الأدمة، وهي اللون المخصوص لأن تسمية ذلك اللون بالأدمة خاص بكلام العرب فلعل العرب وضعوا اسم ذلك اللون أخذا من وصف لون آدم أبي البشر.
وقد جاء في سفر التكوين من كتاب العهد عند اليهود ما يقتضي: أن آدم وجد على الأرض في وقت يوافق سنة 3942 اثنين وأربعين وتسعمائة وثلاثة آلاف قبل ميلاد عيسى وأنه عاش تسعمائة وثلاثين سنة فتكون وفاته في سنة 3012 اثنتي عشرة وثلاثة آلاف قبل ميلاد عيسى هذا ما تقبله المؤرخون المتبعون لضبط السنين. والمظنون عند المحققين الناظرين في شواهد حضارة البشرية أن هذا الضبط لا يعتمد، وأن وجود آدم متقادم في أزمنة مترامية البعد هي أكثر بكثير مما حدده سفر التكوين.
وأما نوح فتقول التوراة: أنه ابن لامك وسمي عند العرب لمك بن متوشالخ بن أخنوخ وهو إدريس عند العرب ابن يارد بتحتية في أوله بن مهلئيل بميم مفتوحة فهاء ساكنة فلام مفتوحة بن قينان بن أنوش بن شيت بن آدم. وعلى تقديرها وتقدير سني أعمارهم يكون قد ولد سنة ست وثمانين وثمانمائة وألفين قبل ميلاد عيسى وتوفي سنة ست وثلاثين وتسعمائة وألف قبل ميلاد عيسى والقول فيه كما تقدم في ضبط تاريخ وجود آدم.
وفي زمن نوح وقع الطوفان على جميع الأرض ونجاه الله وأولاده وأزواجهم في الفلك فيكون أبا ثانيا للبشر. ومن الناس من يدعي أن الطوفان لم يعم الأرض وعلى هذا الرأي ذهب مؤرخو الصين وزعموا أن الطوفان لم يشمل قطرهم فلا يكون نوح عندهم أبا ثانيا للبشر. وعلى رأي الجمهور فالبشر كلهم يرجعون إلى أبناء نوح الثلاثة سام، وحام، ويافث، وهو أول رسول بعثه الله إلى الناس حسب الحديث الصحيح. وعمر نوح تسعمائة وخمسين سنة على ما في التوراة فهو ظاهر قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] وفي التوراة: أن الطوفان حدث وعمر نوح ستمائة سنة وأن نوحا صار بعد الطوفان فلاحا وغرس الكرم واتخذ الخمر. وذكر الآلوسي صفته بدون سند فقال: كان نوح دقيق الوجه في رأسه طول عظيم العينين غليظ العضدين كثير لحم الفخذين ضحم السرة طويل القامة جسيما طويل اللحية. قيل: إن مدفنه بالعراق في نواحي الكوفة، وقيل في ذيل جبل لبنان، وقيل بمدينة الكرك. وسيأتي ذكر الطوفان: في سورة الأعراف، وفي سورة العنكبوت، وذكر شريعته في سورة الشورى، وفي سورة نوح.
والآل: الرهط، وآل إبراهيم: أبناؤه وحفيده وأسباطه، والمقصود تفضيل فريق منهم. وشمل آل إبراهيم الأنبياء من عقبه كموسى، ومن قبله، ومن بعده، وكمحمد عليه الصلاة والسلام، وإسماعيل، وحنظلة بن صفوان، وخالد بن سنان.
وأما آل عمران: فهم مريم، وعيسى، فمريم بنت عمران بن ماتان كذا سماه المفسرون، وكان من أحبار اليهود، وصالحيهم، وأصله بالعبرانية عمرام بميم في آخره فهو أبو مريم، قال المفسرون: هو من نسل سليمان بن داود، وهو خطأ، والحق أنه من نسل هارون أخي موسى كما سيأتي قريبا. وفي كتب النصارى: أن اسمه يوهاقيم، فلعله كان له اسمان ومثله كثير. وليس المراد هنا عمران والد موسى وهارون؛ إذ المقصود هنا التمهيد لذكر مريم وابنها عيسى بدليل قوله: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ}. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّ الله اصطفى ءادَمَ وَنُوحًا وَءالَ إبراهيم وَءالَ عمران عَلَى العالمين} روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن اليهود قالوا: نحن أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام ونحن على دينهم فنزلت، وقيل: إن نصارى نجران لما غلوا في عيسى عليه الصلاة والسلام وجعلوه ابن الله سبحانه واتخذوه إلهًا نزلت ردًا عليهم وإعلامًا لهم بأنه من ذرية البشر المنتقلين في الأطوار المستحيلة على الإله وهذا وجه مناسبة الآية لما قبلها. وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في وجه المناسبة: أنه سبحانه لما بين {أن الدين عِندَ الله الإسلام} وإن اختلاف أهل الكتابين فيه إنما هو للبغي والحسد وأن الفوز برضوانه ومغفرته ورحمته منوط باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم شرع في تحقيق رسالته وأنه من أهل بيت النبوة القديمة فبدأ ببيان جلالة أقدار الرسل عليهم الصلاة والسلام وأتبعه ذكر مبدأ عيسى وأمه وكيفية دعوته الناس إلى الإيمان تحقيقًا للحق وإبطالًا لما عليه أهل الكتابين من الإفراط والتفريط في شأنهما ثم بين محاجتهم في إبراهيم وادعائهم الانتماء إلى ملته ونزه ساحته العلية عما عم عليه من اليهودية والنصرانية ثم نص على أن جميع الرسل دعاة إلى عبادة الله تعالى وتوحيده وأن أممهم قاطبة مأمورون بالإيمان بمن جاءهم من رسول مصدق لما معهم تحقيقًا لوجوب الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وتحتم الطاعة له حسبما يأتي تفصيله انتهى وهو وجه وجيه. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن المخلوقات على قسمين:
المكلف وغير المكلف واتفقوا على أن المكلف أفضل من غير المكلف، واتفقوا على أن أصناف المكلف أربعة: الملائكة، والإنس والجن، والشياطين، أما الملائكة، فقد روي في الأخبار أن الله تعالى خلقهم من الريح ومنهم من احتج بوجوه عقلية على صحة ذلك فالأول: أنهم لهذا السبب قدروا على الطيران على أسرع الوجوه والثاني: لهذا السبب قدروا على حمل العرش، لأن الريح تقوم بحمل الأشياء الثالث: لهذا السبب سموا روحانيين، وجاء في رواية أخرى أنهم خلقوا من النور، ولهذا صفت وأخلصت لله تعالى والأولى أن يجمع بين القولين فنقول: أبدانهم من الريح وأرواحهم من النور فهؤلاء هم سكان عالم السموات، أما الشياطين فهم كفرة أما إبليس فكفره ظاهر لقوله تعالى: {وَكَانَ مِنَ الكافرين} [البقرة: 34] وأما سائر الشياطين فهم أيضا كفرة بدليل قوله تعالى: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ ليجادلوكم وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] ومن خواص الشياطين أنهم بأسرها أعداء للبشر قال تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50] وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوًّا شياطين الإنس والجن} [الأنعام: 112] ومن خواص الشياطين كونهم مخلوقين من النار قال الله تعالى حكاية عن إبليس {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12] وقال: {والجآن خلقناه مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم} [الحجر: 27] فأما الجن فمنهم كافر ومنهم مؤمن، قال تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا المسلمون وَمِنَّا القاسطون فَمَنْ أَسْلَمَ فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَدًا} [الجن: 14] أما الإنس فلا شك أن لهم والدًا هو والدهم الأول، وإلا لذهب إلى ما لا نهاية والقرآن دلّ على أن ذلك الأول هو آدم صلى الله عليه وسلم على ما قال تعالى في هذه السورة {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] وقال: {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1].